وماذا بعد الحشد الأكبر؟ / محمد الأمين ولد الفاضل

سبت, 02/04/2017 - 10:30

هذا سؤال يتردد الآن على ألسنة الكثيرين، ولكن، ومن قبل محاولة الإجابة عليه، فلا بأس من استعراض بعض الرسائل غير المشفرة التي أرسلتها تظاهرة ثلاثاء الحشد الأكبر بالبريد السريع والمضمون إلى أكثر من عنوان.

إن هذا الكم غير المسبوق الذي احتشد في يوم عمل في ساحة مكشوفة

لا يوجد بها أي مكان يقي من برد الصباح ولا من شمس الزوال ليستحق أن تقرأ رسائله بجدية. وإن تلك الجماهير التي خرجت في مدن عديدة في شرق البلاد وفي غربها ووسطها، وفي وقت متزامن لتستحق هي أيضا أن تقرأ رسائلها بجدية. إن هناك عددا من الرسائل التي وضعت يوم الثلاثاء 31 يناير في صناديق بريد مختلفة سنذكر منها:

(1)

رسالة غير مشفرة تم وضعها في صندوق بريد الرئاسة تقول هذه الرسالة وبلغة فصيحة وصريحة بأن الشعب الموريتاني قد يقبل الظلم والاستبداد والفساد والعيش الضنك، ولكنه لن يقبل بأي حال من الأحوال أن يمس من عقيدته، ولا أن يساء إلى مقدساته، وأن تكرر مثل تلك الإساءات وعدم عقوبة أصحابها قد يدفع بهذا الشعب إلى حراك احتجاجي سيكون من الصعب تحديد وجهته أو التحكم في مساره.

(2)

رسالة بالبريد السريع والمضمون تم وضعها في صناديق بريد سفارات الدول الغربية، وفي صناديق بريد محلية تتبع لتلك السفارات، وهذه الرسالة تقول بلغة قوية وحازمة  بأن الشعب الموريتاني لن يقبل بالإلحاد ولا بالإساءة للمقدسات على أرضه، وبأن السفارات الغربية حتى وإن استخدمت كل ما تملك من مكر ومن وسائل الضغط فإنها لن تستطيع أن توفر الأمن والأمان لأي مسيء على هذه البلاد. لقد أوصلت هذه الحشود غير المسبوقة التي قامت في صعيد واحد يوم الثلاثاء، والتي رددت بلسان واحد : لا للإلحاد ..الإعدام للمسيء، لقد أوصلت هذه الحشود رسالة قوية وشديدة اللهجة إلى السفارات الغربية وأتباعها من الموريتانيين، ولا شك بأن هذه الرسالة قد أغاظت القوم وستسبب لهم في الفترة القادمة الكثير من القلق والأرق.

(3)

رسالة ثالثة أو على ألأصح  بلاغ شعبي تم إرساله إلى النخب  في هذه البلاد، وخاصة منها النخب السياسية، ويقول هذا البلاغ بلسان شعبي مبين بأن الشعب الموريتاني يمكنه أن يستغني عن نخبه السياسية إذا ما تقاعست تلك النخب عن حمل لواء الدفاع عن المقدسات الدينية لهذا الشعب. لقد استطاع "البسطاء" من الشعب الموريتاني أن ينظموا حراكا سلميا وحضريا غير مألوف وغير مسبوق، دون أبسط مشاركة من النخب السياسية في هذه البلاد.

لم تكن هذه الرسائل الثلاث هي كل الرسائل التي أبرقها الحشد الأكبر إلى جهات شتى، ولكني، وعلى الرغم من ذلك فإني سأكتفي بها في هذا المقام، وسأخصص الجزء الباقي من المساحة المخصصة لهذا المقال للحديث عن بعض المغالطات التي ارتبطت بهذا الحراك، وذلك من قبل أن أجيب على السؤال: وماذا بعد الحشد الأكبر؟

المغالطة الأولى: يقول البعض، وخاصة من أنصار المعارضة، بأن حراك النصرة تقف وراءه السلطة ومخابراتها، وبأنها تريد من خلال هذا الحراك أن تشغل الشعب الموريتاني عن مشاكله الحقيقية التي يعاني منها والتي تتمثل في ارتفاع الأسعار والبطالة والانفلات الأمني والانسداد السياسي..

على أصحاب هذا القول أن يعلموا بأن حماية المقدسات هي أهم عند الشعب الموريتاني من الغذاء والدواء والعمل والأمن والسياسة، والمساس بها يعتبر مشكلة حقيقية ويسبق من حيث ترتيب الأولويات أي مشكلة أخرى سواء تعلقت بالعيش الكريم أو بالأمن أو بالسياسة. وعلى أصحاب هذا القول أن يعلموا بأن الشخص الذي يخاف من كلب مثلا لا يمكن أن نصدق بأنه سيحتمي بأسد، والسلطة ليس من مصلحتها أن تفتعل مشكلة كبرى لحل مشكلة أصغر، فبأي منطق يمكننا أن نصدق بأن السلطة قد افتعلت حراك النصرة الذي انخرط فيه كل الشعب الموريتاني تقريبا لتشغل بذلك جزءا من هذا الشعب عن التحرك ضد ارتفاع الأسعار وتفشي الفساد والانفلات الأمني والانسداد السياسي..

إن حراك النصرة لا تقف وراءه السلطة، ولا تتحكم في مساره، ولكن ذلك لا يعني عدم وجود محاولات قوية قامت بها السلطة الحاكمة لاستغلال هذا الحراك أو  للانحراف به عن مساره، أو حتى لإيقافه في مرحلة من المراحل. في البداية حاولت السلطة أن تستغل عواطف المتظاهرين في بداية هذا الحراك، ولذلك فقد استقبل الرئيس المتظاهرين في أول مسيرة بعمامته الزرقاء وبخطاب عاطفي قال فيه بأن موريتانيا ليست دولة علمانية، ومن بعد ذلك حاولت السلطة عن طريق مخابراتها أن تنحرف بهذا الحراك عن مساره الأصلي، ولما تراجع هذا الحراك حاولت من بعد ذلك أن ترضي السفارات الغربية بإطلاق سراح المسيء، ولكن، وفي اللحظة المناسبة هبت جماهير النصرة من جديد فأفشلت ذلك المخطط، واضطرت السلطة في يوم الثلاثاء الماضي، ومن خلال المحكمة العليا، أن تعيد ملف المسيء إلى مساره الطبيعي.

إن السلطة لم تخلق حراك النصرة لإلهاء الشعب عن مشاكله "الحقيقية" كما يدعي البعض، حتى وإن كانت هذه السلطة قد حاولت أن تستغل هذا الحراك وأن توظفه لصالحها. وفي اعتقادي الشخصي فإنه لا شيء يزعج السلطة اليوم أكثر من حراك النصرة الذي التف حوله الشعب الموريتاني، ولو كان بمقدور السلطة أن تلهي الشعب الموريتاني عن ملف المسيء بافتعال تظاهرات عن الأسعار أو عن الانسداد السياسي لفعلت ذلك، ولكنها لا تستطيع.

لقد انطلق حراك النصرة ولم يعد بالإمكان إيقافه إلا بإعدام المسيء، وإن إعدام المسيء سيغضب السفارات الغربية غضبا شديدا، وبذلك فإن هذا الحراك يكون قد وضع السلطة الحاكمة في ورطة حقيقية. من قبل أن أختم هذه الجزئية لابد أن أقول بأن السلطة إذا وقفت مع الشريعة والقانون ومع الشعب فلا خوف عليها من السفارات الغربية.

المغالطة الثانية: يقول البعض بأن هذا الحراك تقوده وتتحكم فيه شخصيات دينية ورجال أعمال ومحامون. هذه أيضا مغالطة أخرى، فهذا الحراك هو حراك عفوي ظهر من دون قيادات، ويمكنه أن يبقى بدون قيادات. صحيح أنه في مثل هذه الحراكات التي تنطلق بشكل عفوي يكون من السهل لأي شخص أن يحتل الواجهة إذا ما بذل الجهد وقدم التضحيات في سبيل ذلك، وصحيح أيضا بأن هناك رجالا  ونساءً قدموا جهودا كبيرة في مسيرات النصرة، ولذلك فهم الآن في واجهة هذا الحراك، ولكن الصحيح أيضا بأن هذه القيادات سيلفظها الحراك بعيدا في أول لحظة ستحاول فيها تلك القيادات أن تنحرف بالحراك عن مساره الأصلي، ولكم في جماعة "يحظيه ولد داهي" خير مثال.

المغالطة الثالثة: يبرر بعض قادة الأحزاب السياسية غيابهم عن هذا الحراك خوفا من تسييس الحراك، وهذه حجة مقبولة في ظاهرها، فهذا الحراك يجب إبعاده عن السياسة وعن تجاذباتها، وليس من مصلحة الحراك أن تظهر في واجهته أي شخصية سياسية، اللهم إلا إذا اتفقت المعارضة والموالاة أن تظهرا معا في واجهة الحراك، فمثل ذلك الظهور المتوازن سيحمي من تسييس الحراك، ولكن ذلك الظهور المتوازن ليس بالممكن في هذه الفترة، ومن هنا فإن ابتعاد السياسيين عن واجهة هذا الحراك قد يكون أمرا في غاية الأهمية، وهذا هو بالضبط ما دفعني شخصيا لأن أرفض أكثر من مرة من أظهر على منصة تظاهرات النصرة، وذلك ليقيني بأن هناك من سيذكر بانتمائي للمنتدى الوطني للديمقراطية والوحدة.

إن تلك الحجة التي يبرر بها بعض السياسيين غيابهم عن تظاهرات النصرة هي حجة مقبولة، ولكن كان عليهم أن يطلبوا من منتسبي أحزابهم من غير القيادات المعروفة أن يشاركوا في تظاهرات النصرة، وهو الشيء الذي لم يحصل.

كما أن القيادات الحزبية كان بإمكانها أن تشارك في تظاهرات النصرة دون أن تعتلي المنصة، فمثل ذلك سيجعلها تؤدي واجبها في المشاركة في الدفاع عن المقدسات، كما أنه سيفيدها سياسيا، فتصوروا مثلا لو أن رئيس حزب سياسي شوهد يوم ثلاثاء الحشد الأكبر وهو يقف بين الجموع التي احتشدت في ساحة المطار، إن مثل ذلك الظهور كان سيمنحه مكانة كبيرة في قلوب ذلك الحشد الكبير من الموريتانيين.

المغالطة الرابعة: يستغرب البعض من أن النصرة قد تجاهلت ملفات إساءة أخرى، وبأنها ركزت على ملف كاتب المقال المسيء دون غيره لدوافع عنصرية. هذه مغالطة أخرى، فمن المعروف بأن التركيز على كاتب المقال المسيء يرجع لعدة أسباب موضوعية ولا علاقة لها بالعنصرية، أولها أن كاتب المقال المسيء جمع بين أربعة أمور لم تجتمع في غيره من المسيئين: أولها أنه وقع مقاله باسمه الشخصي وليس باسم مستعار، وثانيها أنه نشر مقاله في مواقع ولم يكتف بنشره في صفحته الشخصية، وثالثها أنه كتب ما كتب وهو داخل الأراضي الموريتانية، ورابعها أن إساءته كانت صريحة وبينة ولا تحتمل أي تأويل. إن ملف كاتب المقال المسيء قد أصبح لتلك الأسباب عنوان معركة بين المسيئين وجماهير النصرة، ومن هنا وجب التركيز على هذا الملف، فإن تم كسبه فإنه سيكون بإمكان حراك النصرة أن يكسب كل الملفات الأخرى، وإن خسر الحراك هذا الملف لا قدر الله، فإنه سيخسر كل الملفات الأخرى، وحينها سيرتفع صوت الإلحاد والإساءة على أرض المنارة والرباط.

يبدو أن المقال قد زاد حجمه عن المساحة المخصصة له، وذلك من قبل الإجابة على السؤال العنوان، ولذلك فإني سأكتفي هنا بأن أقول ـ وبالمختصر المفيد ـ بأن حراك النصرة قد تجاوز مرحلة الخطر، وبأنه سيظل قادرا على تحريك الجماهير في أي وقت يتم فيه فتح ملف كاتب المقال المسيء.

حفظ الله موريتانيا..