"الحريم السياسي" عند الأمويين

ثلاثاء, 02/23/2021 - 22:50

عندما دخل الحجاج بن يوسف الثقفي يوماً على الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك وهو بكامل سلاحه، وهو ما كان ممنوعاً آنذاك، فزعت زوجة الخليفة أم البنين من ذلك، وأمرت جاريتها أن تبلغ زوجها قائلة: "يا أمير المؤمنين، والله لَأَن يخلو بك ملك الموت، أحبُّ إليَّ من أن يخلو بك الحجاج بن يوسف".

فذعر الحجاج كثيراً من فطنة أم البنين، وأراد أن يصرف الوليد عن الاقتناع برأيها، قائلاً: "يا أمير المؤمنين، دع عنك مفاكهة النساء (الاستماع إليهن) بزخرف القول، فإنما المرأة ريحانة، وليست قهرمانة".

فطلبت أم البنين من زوجها بأن يزورها الحجّاج، وعندما دخل عليها، لم تأذن له بالجلوس وأنّبته قائلة:
"ويحك يا ابن يوسف، لولا أن الله علم أنك شرُّ خلقه، وأهون خليقته، ما ابتلاك برمي الكعبة بحجارة المنجنيق، فأما ابن الأشعث فقد والى (أكثر) عليك الهزائم حتى لُذتَ بأمير المؤمنين عبد الملك بن مروان، فأغاثك بأهل الشام، وأما نهيك له عن مفاكهة النساء، فلطالما نفض نساء أمير المؤمنين الحليّ من أيديهن وأرجلهن، وبعنه في الأسواق حتى أُخرج في أعطيات أهل الشام إليك، ولولا ذلك لكنت أذلَّ من البقَّة".

تأتي الباحثة التونسية بثينة بن حسين على ذكر هذه الرواية في كتابها "نساء الخلفاء الأمويين" (دار الجمل، 2014)، مساهمة به في إعادة قراءة التاريخ العربي الإسلامي، ودور المرأة على مر العصور، وخاصة في المجال السياسي، من خلال التركيز على منظور "التاريخ ـ الذاكرة"، التي تبيّن بقاء ذكرى الزوجات الأمويات من خلال ذاكرة الدمشقيين وأهل الشام. ويتناول الكتاب مجموعة من نساء الخلفاء الأمويين سواء كُنّ زوجات أو جوارٍ منذ عهد الخليفة معاوية بن أبي سفيان إلى عهد مروان بن محمد، أي تاريخ سقوط الدولة الأموية (660-750 م).

ركزت الكاتبة على منعطفين هما الأكثر تأثيراً في تراجع الدور السياسي للمرأة في السياق العربي الاسلامي. الأول، كان مساهمة عائشة في الحرب ضد علي بن أبي طالب للقصاص، وقد شكلت هزيمتها في تلك المعركة ضربة قاسية لدور المرأة في المجال السياسي، في بدايات تاريخ التسيّس الاسلامي. وارتبط اسم عائشة في الضمير الجمعي باستحالة العمل السياسي للمرأة، ورسّخ الفقهاء، وخاصة الشيعة، هذه الفكرة على مر العصور، كما توضح الباحثة. وقد استبطن هذا الاستبعاد (أو الاستحالة) فكرة أن جسد المرأة، بالمعنى الجنسي، يشوّه السلطة السياسية، وأن شبقها يفسد رجال الدولة وهياكلها، حيث لا يترك أجهزة ورجال الدولة يعملون بالكفاءة والاتزان المطلوبين.

أما المنعطف الثاني، فتمثّل في مقتل عبدة المذبوحة، زوجة الخليفة هشام بن عبد الملك، التي تميّزت بجمالها الفائق، وكان قد دخل عليها الخليفة يوماً ورآها في ثياب سود رقاق كالتي يلبسها "النصارى" في عيدهم. فسُرّ كثيراً لرؤيتها فيه، ثم انزعج. فسألته إن كان يريدها أن تغيّر ثيابها، فأجابها بأنه رأى شامة على كتفها من فوق الثياب، وبها تُذبح النساء. وكان تطيّر الخليفة في محله، حيث قبُض عليها وذبحت على أيدي العباسيين في ما بعد. وترى الكاتبة أن سبب مقتل عبدة آنذاك كونها مثّلت جزءاً من التأريخ الاموي، حيث كانت نساء الخلفاء في تلك المرحلة هن الرواة الحقيقيات لحقبة الأمويين، وبقتلهن تموت الكثير من القصص والمرويات عن تلك الحقبة وتُطمَس الذاكرة التاريخية الأموية.

لعبت نساء الخلفاء الأمويين دوراً متفاوتاً في المجال السياسي. فقد كان معاوية يشرك زوجته فاختة بنت قرظة في شؤون الحكم، فهي التي شجعته على مواصلة سياسة المداراة التي كان يتبعها مع الناس. وعُرفت أم كلثوم، زوجة الخليفة يزيد بن معاوية، بتعقّلها، وقد كانت الساهرة على تنظيم الحداد على الحسين بن علي وأهله في البلاط الأموي. ويعتبر هذا الموقف موقفاً سياسياً واجتماعياً ودينياً، إذ إنها وصلت رحم بني هاشم، أبناء عم الأمويين، بعد مقتلة الحسين بن علي على أيدي الامويين.

ولم يقتصر الدور السياسي في البلاط الأموي على زوجات الخلفاء اللاتي ينتمين لأصول عربية شريفة، بل شمل الجواري أيضاً. فقد كانت نوار، جارية الوليد بن يزيد، والمحظية عنده، لها ذكر بالشام في رواية الحديث، واتصفت بالفضل والعقل. وهي التي أمرها الوليد أن تصلي بالناس ـ وقد سكر وجاءه المؤذن ـ وحلف عليها أن تصلي. فخرجت متلثمة لابسة بعض ثيابه فصلّت بالناس. وهنا تحاجج الباحثة بأن هذه الحادثة مثّلت الفرصة لفقهاء عصور الانحطاط، كإبن الجوزي، لتكريس وضعية المرأة كناقصة عقل ودين، إذ نرى الجارية المستهترة بالدين يأتم بها المسلمون بسبب أوامر الوليد. وهكذا أُخذت المرأة بذنب الرجل الذي حرّض على الفعل، والرجل الذي أراد بذكر الحادثة الإنقاص من أهمية الفعل.

لم تغفل الكاتبة الجوانب الدنيوية لهؤلاء الزوجات، وتتحدث عن غرام "أم البنين"، زوجة الوليد بن عبد الملك، بالشاعر وضاح اليمن، وكانت ترسل له فيدخل عليها سراً من وراء الستار فينشدها ويحدثها، فسمع الوليد بذلك فغمّه ذلك وأمر بقتله. والملفت هنا أن الوليد قد تغاضى عن المغامرات الغرامية لزوجته، ولم يطلّقها رغم أنه قتل عشيقها. وقد دشنت أم البنين ممارسة ملفتة في الحرية الجنسية والحرية في القول في بلاط الامويين. واشتهر عن أم حكيم، زوجة الخليفة هشام بن عبد الملك، تتلذذها بالخمر مثل الخلفاء، إذ كانت مغرمة بالشراب، مدمنة عليه، لا تكاد تفارقه، وكأسها التي كانت تشرب فيها، مشهورة في قصص التاريخ، وظلت في خزائن الخلفاء لفترات طويلة.