دفاعا عن الشرعية (الحلقة 7)

خميس, 12/03/2020 - 09:16

د. تكملة الرد على أجوبة النقيب حول المادة 93 ومثال بنوشيه

وقبل أن ننسلخ من اللغط الدائر حول المادة 93، ونصل إلى مثال بنوشيه رئيس الشيلي الأسبق، لا بد أن ننبه إلى الأمور التالية:

الأمر الأول: أن فهم عمدائنا وزملائنا للمادة 93 من الدستور، والقائل بأن عدم مساءلة الرئيس ينتهي بانتهاء مأموريته، هو فهم منحاز لا يتناقض مع نص المادة الصريح الواضح فحسب؛ بل ويتنافى كذلك مع إرادة المشرع، ومع الغاية التي شُرعت من أجلها الحصانة، وهي: ضمان حرية وحماية رئيس السلطة التنفيذية رئيس الدولة والقائد العام للقوات المسلحة من أي عقبة تقف في طريق قيامه بمسؤولياته الجسيمة، ومن تغول السلطتين التشريعية والقضائية. ويستغلون في ترويج هذا الفهم قولهم بعدم منطقية الحصانة الأبدية التي لم يقل بها أحد. فنحن لا ندعو إلى حصانة أبدية؛ بل ندعو فقط إلى تطبيق المادة التي تمنع منعا باتا مساءلة الرئيس عن أفعاله أثناء ممارسته سلطاته. أما إذا ارتكب أفعالا مجرمة بعد انتهاء مأموريته فهو يسأل عنها كغيره من المواطنين! ولم يذكر لنا عمداؤنا وزملاؤنا، ولا “لجنة التحقيق البرلمانية” فعلا مجرما صدر من الرئيس السابق بعد انتهاء مأموريته. اللهم إلا إذا كان تمسكه بحقوقه المدنية وممارسته لها!

الأمر الثاني: أن فهم عمدائنا وزملائنا للمادة 93 من الدستور ليس خاطئا كما أسلفنا فحسب؛ بل كارثي أيضا في حق من سنت الحصانة لصالحهم خدمة للمصلحة العامة، ونخص منهم النواب والمحامين والقضاة. فهذه الفئات – من بين أخرى- تنص القوانين على عدم مساءلتها عن أفعالها أثناء أداء وظائفها. ولا يعني ذلك تمتعها بحصانة أبدية؛ بل يعني تمتعها بحصانة وظيفية تغطي أفعالها أثناء ممارستها للوظيفة المحصنة. فإذا أخذنا بقول عمدائنا وزملائنا بأن الحصانة تنتهي بانتهاء تلك الوظائف، فعندها لا يكون للحصانة جدوى. وسيكون النائب والمحامي والقاضي معرضا للمساءلة فور انتهاء ممارسته لوظيفته، مساءلة لا تتعلق بما يفعله بعد انتهاء الوظيفة؛ بل بما فعله أثناء ممارسته للوظيفة المحصنة! وهو أمر يقوض الحصانة، ويخالف إرادة المشرع ويعرض المصلحة العامة للخطر.

الأمر الثالث: (وهو أمر في غاية الأهمية) أننا لو افترضنا جدلا – وجدلا فقط- سريان قانون “الأفعال المنفصلة” في بلادنا. وهو للتذكير، تعديل جرى سنة 2007 على الدستور الفرنسي في مادته 51 – 2، فإن “الأفعال المنفصلة” التي يحاول عمداؤنا وزملاؤنا إلصاق تهمة ارتكابها بالرئيس السابق، وملؤوا بها الدنيا وشغلوا الناس؛ والتي تراوحت من “اقتناء دور خاصة بمئات الملايين من الخزانة العامة ومن أرباح شركة اسنيم” وامتلاك “حسابات في الخارج”.. و”اقتناء سيارات فارهة من حساب الشعب”.. و”بناء مسبح واقتناء دور والاستيلاء على أموال” (من جواب أسئلة الأستاذ أحمد ولد الوديعة قناة المرابطين) إلى “ممارسات الفساد والجرائم العديدة المماثلة لها من جنح وجنايات غسل الأموال التي هي موضوع التحقيق الحالي” معه، حسب بيان فريق دفاع الدولة بتاريخ 1 أكتوبر 020، و”كلفت الدولة أضرارا تقدر بآلاف المليارات” حسب مقابلة قناة الوطنية.. هذه “الأفعال المنفصلة” عجز مدعيها عجزا تاما عن إثباتها، ولم يَجِدْ في تقرير اللجنة البرلمانية الذي يعتد به غير “اختلالات” لا تسمن ولا تغني من جوع، فراغ إلى استخلاص قرائن أوهى من نسيج العنكبوت، مصدرها مؤتمر الرئيس السابق الصحفي. وبدل أن يضطلع هذا المدعي بعبء البينة، ألزم من يتهمه بأن يقدم له بينة على نفسه. وادعي أن القانون يلزمه بذلك: “كيف يفسر للقانونيين للحقوقيين للرأي العام أنه لمدة عشر سنوات لم يأخذ شيئا من راتبه، وأنه ثري. من حق كل موريتاني أن يطلب، أن يسأل هذا الرئيس السابق على أساس هذه التصريحات التي تشكل قرينة قائمة؛ فعليه أن يرد على هذه القرائن المتوخاة من تصريحاته”!

وننبه هنا إلى لم نتطرق في حديثنا للتعليق على أجوبة السيد النقيب على أسئلة الأستاذ أحمد ولد الوديعة من قناة المرابطين؛ لا عن قلى، وإنما لأن أجوبته للمرابطين كانت متماهية مع أجوبته لقناة الوطنية، ولا داعي للتكرار. وخاصة أن تعليق الأستاذ أحمد ولد الوديعة على أجوبة النقيب قد كفانا مؤونة التعليق، فقال: “فهذه الأشياء – سيدي النقيب- التي تشيرون إليها هي متهم بها أفراد آخرون هم الذين قاموا بها. وزراء، مديرو شركات.. ومحاولة إقحام الرئيس السابق فيها وفق ما يراه محاموه أنها عملية سياسية محضة، هي تعود إلى إشكال سياسي، وهذا ليس له أصل من الناحية القانونية، وإنما هو عملية إقحام سياسي للرئيس السابق نتيجة القضية السياسية المعروفة قضية المرجعية وما إلى ذلك”.

 

مثال الرئيس الشيلي الأسبق بنوشيه

 

ويسوق السيد النقيب في جميع مقابلاته مثال الرئيس الشيلي الأسبق بنوشيه بغية دعم نظرية “الأفعال المنفصلة” التي يتبناها؛ وهو أمر يثير الكثير من الاستغراب. وأول ما يلفت الانتباه في سرد هذا المثال الغريب هو الهلهلة: “كان يتعالج في لندن وقام قاض إسباني تقدم مواطنون إسبانيون أمامه بدعوى ممارسة التعذيب ضدهم في شيلي زمن رئاسته، فتم الاحتجاج أنه كان رئيسا، فما رد كان القاضي الإنجليزي هل التعذيب موضع الدعوى من صلاحيات ومن وظائف رئيس الجمهورية؟ فكان الرد واضحا بالنسبة للقضاة”!

قاضي اسباني، وقاضي انجليزي، تم الاحتجاج أنه كان رئيسا، فما رد كان القاضي الإنجليزي هل التعذيب موضع الدعوى من صلاحيات ومن وظائف رئيس الجمهورية؟ وكان الرد واضحا للقضاة! فهذه الهلهلة وهذا الإيجاز المخل قد ألقيا بظلال من الغموض والغرابة على موضوع يراد له أن يكون مثالا دوليا يحتذي، ودرسا في القانون؛ فصار من واجبنا أن نرفع اللبس، وننير المتلقي.

نعم. لقد كان بنوشيه – وهو طاغية شيلي مشهور- يتعالج في بريطانيا بعد تنحيه عن الحكم، عند ما طلب قاض إسباني من القضاء الإنجليزي تسليمه إلى إسبانيا ليحاكم فيها بتهم الإرهاب والإبادة الجماعية واحتجاز الرهائن والتعذيب. وذلك عملا بالاتفاقية الأوروبية الخاصة بتسليم الأشخاص. وبناء على دعوى رفَعَها أمام القاضي الإسباني مواطنون إسبان ادّعوا أنهم عذبوا في شيلي في عهد بنوشيه.

وقد طرح طلب القاضي الإسباني على القضاء الإنجليزي مسألتين تعلقتا بالحصانة والتسليم؛ الشيء الذي لم يذكره “الإيجاز” الذي أتحفَنا به النقيب، والذي تركز على رأي “القاضي الإنجليزي” في مسألة الحصانة، ظنا منه أنه يخدم وجهة نظره.

وكان أحرى به، خدمة للبحث وللحقيقة معا، أن يقدم لنا إحاطة شاملة حول الموضوع برمته، بدل الاكتفاء بإيجاز مخل.

لقد اتخذ مجلس اللوردات البريطاني (المحكمة العليا) قرارين في قضية طلب تسليم بنوشيه للقضاء الاسباني تصدى في الأول منهما للحصانة، فقال: “إنه، وعلى الرغم من أن رئيس أي دولة سابق يتمتع بالحصانة ضد أية أفعال ارتكبت في إطار مهماته رئيسا لدولة، إلا أن التعذيب والجرائم ضد الإنسانية لم تكن من مهمات أي رئيس دولة”. وسَبَبُ هذا القول الذي لم يفصح لنا عنه النقيب، هو أن القانون الدولي الأنجلو ساكسوني Common Law القائم على العرف، ويعتمد على السوابق القضائية كمصدر عام للتشريع؛ والنافذ في بريطانيا وأمريكا وكندا وأستراليا ونيوزيلندا، يعتبر أن رئيس الدولة السابق يتمتع بالحصانة فقط فيما يقوم به من أفعال رسمية في حدود وظيفته كرئيس للدولة. وذلك خلافا لما تراه مدرسة القانون المدني التي تستمد جذورها من التراث القانوني الأوروبي (وخاصة القانون الروماني) وتطبق القانون المكتوب الصادر عن المجالس التشريعية (والتي ينتمي إليها باقي أوروبا، وإفريقيا، وجل العالم العربي) من أن الحصانة تستند إلى مكانة الشخص لا إلى فئة الأفعال المرتكبة؛ وعلى أساس ذلك رفضت فرنسا وبلجيكا الطلبات التي تقدمت بها المنظمات الأوروبية في نوفمبر 1998 لمحاكمة لوران كابيلا رئيس جمهورية الكونغو الديمقراطية أثناء زيارته للدولتين. ثم تصدى قرار مجلس اللوردات الثاني الذي حجبه عنا ذلك الإيجاز المخل لمدى توفر قواعد التسليم التي من أبرزها: وجود معاهدة تقره بين الدولتين: الطالبة والمطلوبة، أو وجود عرف مستقر بينهما بالمعاملة بالمثل، التجريم المزدوج (أي أن تكون الأفعال التي يزعم ارتكابها مُجَرّمَةً في قانون البلدين في الوقت الذي ارتكبت فيه) عبء الإثبات الذي يقع على الدولة التي تطلب التسليم، استثناء الجرائم السياسية (لا يُسَلم المتهمون بارتكابها) مبدأ التخصيص (لا يجوز للدولة طالبة التسليم أن تحاكم المُسَلَّم إلا على الجرائم التي استندت إليها الدولة المُسَلِّمة في تسليمه) فمثلا طلب القضاء الإسباني تسليم بنوشيه لاتهامه بجرائم الإرهاب والإبادة الجماعية واحتجاز الرهائن والتعذيب. ولكن مجلس اللوردات لم يسمح بتسليمه إلا استنادا إلى تهمة التعذيب والتآمر على ارتكاب التعذيب بعد ديسمبر 1988 وهو تاريخ تجريم الفعل في بريطانيا! وقد تم في نهاية المطاف إرسال بنوشيه إلى تشيلي لأسباب صحية، ولم يحاكم في إسبانيا ولا في تشيلي. (ينظر “تطبيق القانون الدولي على الطغاة لدى سفرهم خارج بلادهم”).

تلكم كانت حكاية بنوشيه التي قدمت لنا مثلا لنفي الحصانة عن الرؤساء السابقين وإمكان “مساءلتهم عن أفعالهم أثناء ممارسة سلطاتهم” دون أن تمحص، وتبين لنا الأسس القانونية التي بُنِي عليها قضاء “القاضي الإنجليزي”! والتي هي – كما أسلفنا- أخذ المدرسة الأنجلو سكسونية Common Law بنظرية “الأفعال المنفصلة” ووحدة تجريم التعذيب في بريطانيا وإسبانيا، ووجود اتفاقية تسليم بين البلدين، وعدم تقادم الجرائم ضد الإنسانية المنصوص في الاتفاقيات الدولية.

ولنا أن نتساءل بحق:

– أليس من المستقِر والمعتمَد شرعا وقانونا التبين والتبصر، والحرص الشديد عند تنزيل الأحكام على الوقائع؛ ومنع الاجتهاد والقياس والاستحسان والاستصحاب في ظل وجود نص صريح قطعي، هو في نازلتنا المادة 93 من الدستور.. ثم منع القياس مع وجود الفارق، في حالة غياب النص؟

– وهل يوجد الرئيس محمد ولد عبد العزيز في دولة أخرى للتداوي، أو فرارا من العدالة في بلده، أو في بلد آخر، حتى نسوق مثال بنوشيه وأحكام “القاضي الإنجليزي” لتبرير تسليمه لمن يطلبه؟ وهل رفعت ضده دعوى قضائية – أيا كانت- حتى هذه اللحظة، أحرى أن تتعلق بالتعذيب والإبادة الجماعية.. وغير ذلك من الجرائم ضد الإنسانية التي لا تدخل بحق فيما يقوم به الرؤساء من أفعال رسمية في حدود وظائفهم، حتى نقتبس ونقيس في علاجنا للموضوع على نازلة بنوشيه؟ أم ضُرِبَ لنا مثل بنوشيه بصفته جزءا من حملة تشويه منظمة هدفها شيطنة الرجل ومحو إنجازاته العملاقة وعشريته الناصعة.. فربط اسمه باسم بنوشيه في وسائل الإعلام؟ وشتان ما بين اليزيدين! وقد يكون في الحديث عن بنوشيه إيحاء بالتخلي عن تهمة الفساد وإبدالها بتهمة انتهاك حقوق الإنسان والجرائم ضد الإنسانية؟ أو تبييتُ وتحضيرُ محاكمات “حقوقية” و”سياسية” تشتت شمل الأغلبية الوطنية الوسطية الحاكمة، وتمزق لحمة النسيج الاجتماعي، وتشعل نار الفتنة التي أطفأها الرئيس محمد ولد عبد العزيز بحكمة ومسؤولية وبعد نظر؟!

– وإذا افترضنا، انسجاما مع مثال بنوشيه الذي ضُرب لنا، أن الرئيس محمد ولد عبد العزيز يوجد الآن في بريطانيا التي كان يتابع فيها دروس تقوية في اللغة الإنجليزية؛ ونطلب منها تسليمه لنحاكمه، فما هي التهم التي سنوجهها له؟ والتي يجب أن يتوفر فيها التجريم المزدوج بيننا وإياها حتى توافق على طلبنا. أنتهمه بارتكاب جرائم ضد الإنسانية؟ وهي تهمة خطيرة ومجرمة – كما رأينا- في قوانين المملكة المتحدة وفي قوانيننا وفي القانون الدولي، وتشكل فعلا منفصلا في رأي “القاضي الإنجليزي” كما سلف. ولن يكلفنا اتهامه بها كبير عناء، وسيُبْلِي إعلامُنا بلاء “حسنا” في إلباسه لبوسها، ويبذل قضاتنا ومحامونا جهودا مضنية في إقناع “القاضي الإنجليزي” بأن “موضوع الدعوى (ليس) من صلاحيات ووظائف رئيس الجمهورية”.. وينتهي الأمر! ولكن حذار.. فعبء الإثبات يقع علينا ويا للأسف! فكيف نقنع ” القاضي الإنجليزي” بارتكاب ولد عبد العزيز جرائم ضد الإنسانية، ما دمنا قد عجزنا عن إثبات ارتكابه “جنح وجرائم فساد العشرية” الوارد حصرها في تقرير اللجنة البرلمانية؟ فلنتهمه إذن بتهم يسهل علينا إثباتها مثل إصراره الإجرامي على التمسك بحقوقه المدنية وممارسة السياسة. فعسى أن تكون تلك الأفعال مجرمة في بريطانيا، وأن يقتنع “القاضي الإنجليزي” بأنها “أفعال منفصلة” عن الجرائم السياسية التي لا يُسَلّم مرتكبوها!

– وأخيرا، ما لنا نحن في موريتانيا وإفريقيا الغربية والمغرب العربي وللقانون الأنجلو سكسونية Common Law وفقهه واجتهاداته؟ ولماذا يذهب بنا الغلو السياسي والمهني إلى ترك نصوصنا التشريعية الصريحة الواضحة، والتعلق بأذيال “القاضي الإنجليزي”؟

إن ما نعرفه نحن وأنتم، وقد عانينا في خندق واحد سنوات التيه والجمر، قبل أن ينقذ محمد ولد عبد العزيز وصحبه موريتانيا ويبنوها، هو أنه كان نقيض بنوشيه على طول جميع الخطوط.. وأن بئس ما جازيناه!