الكفيه ولد بوسيف .. الأمير .. الأديب .. والفارس الشجاع

اثنين, 03/09/2020 - 18:09

هو الفارس الأديب الذي طبقت شهرته أرجاء موريتانيا ، وعرفته الذاكرة المحلية نموذجاً للإباء الذي استعصَى على صرف الزمان ، ومثالاً للنخوة الأسطورية التي ميزت أولاد امبارك عن غيرهم ، ولا أدلَّ على ذلك من المثل الشائع (أقلظ من الكفيَ) .اسمه امْحَمَّدْ ول بوسيف وهو من ذرية هَنُّونْ لِعْبَيْدي ثم من أولاد العالية وهم كانوا في أولاد امبارك من أعلا البيوت إمارة ورياسة وشرفا ونخوة إن لم يكن أعلاها.

عاش الكفيَ صباه كما يعيش أبناء الأمراء في ذلك الزمان ، وتحتفظ الذاكرة المحلية ببعض القصص التي تشير إلى نوعية التربية للـ(ـعِيِّل) في ذلك المحيط ، إذ لم يكونوا يهددون ولا يضربون و(ما ينحكم عنهم شي) ولا (يثقل اعليهم) ولا (ينعكسُ اخلاكًاتهم) ، بل (ما يُنَقْسُ) ... الــخ

وكذلك كانت تربية الكفيَ الذي (اتخلط) في صباه مع كهل من الزوايا طلب منه أهله أن يقرئه بعض القرآن هو وقريبا له ، فظن الطالب (مسكين) أن (تلميديَّيْه) الجديدَيْن كسابقيهما ، وبعد أن آنس منهما استهتاراً وتمرداً حاول تأديبهما بالإشارة أولاً فلما لم تنفع ، باغتهما مرة وهما يلعبان (لِكْعَبْ) فحاول ضربهما ، فتعاونا عليه و....(ـخلطوه امع شي ) ، وما كان من أوليائه الفتَيَيْن بعد أن رفع الطالب لهم الأمر إلا أن عجلوا له شرطه وطلبوا منه -ناصحين- مغادرة الحي ، (لأن العِيِّل ما يثقل اعليهم) .

وكانت تقاليد أولاد امبارك تحتم على الفتيان المهارة في أمور كثيرة تدل على كمال الفتوة كإتقان شروط الفروسية واستعمال السلاح ونسيان الخوف من المعارك أو الموت فيها ..... الخ ، وتحتم عليهم كذلك كحد أدنى الإلمام التام بـ(أزوان) و (لِغْن) وهو الفن الذي كانت إمارة أولاد امبارك حاضنة له ومشجعة عليه ويكاد يقوم كله على قصصهم وأشوارهم واتهيديناتهم ...الخ

وفي هذا الوسط عاش الكفي صباه وشبابه في حين كانت إمارة قومه تعيش لحظات مجدها الأخيرة ، بدايةً على يد أبنائها الذين أضعفوها بتناحرهم الداخلي على الإمارة ، وعلى يد مشظوف النازحين من تكًانت أخيراً . وهو ما ترك أعمق الأثر في نفس الكفي الأبِيَّة .

 

يروي له صاحب الوسيط قوله يعتبر بنكبة قومه وإدالة الدهر مشظوفاً منهم :

 

أسْـكِ يَتصريـفْ القَـيُّـومْ**واسـكِ يـذاكْ التَّصَـرُّوفْ

 

مشظوفْ اكًْبَلْ مُلْكِي واليومْ**عدْتْ آنَ مَالِكْني مشظوف

 

وثَمَّ قصة تتناقلها الأفواه مفادها أن مشظوفاً بعد أن هزموهم أسروه هو وسلبوه سلاحه وقيدوا حريته بحيث لم يعد له حق التنقل كما يشاء ، وصار هو يعاكسهم مع أسره فلا يامرونه بشيء إلا عَكَسَه ، فشاغبه بعضهم فقال : قل لا إله إلا الله . فسكت !! ، فرفعوا أمره إلى أحمد محمود بن لمحيميد زعيم مشظوف ، فقال : أنظروه حتى تغيب الشمس فإن غابت ولم يقلها فاقتلوه . فاعتقلوه منتظرين مغيب الشمس وظل هو سحابة يومه ساكتاً حتى إذا دنت الشمس للمغيب مُسْياً زفر ثم قال :

يَلاَّلَـكْ يَلْكَـفْـيَ**هَذِي الشَّمْسْ ادَّلاَّتْ

لا إلــهَ نَـفْــيَ**إلا اللهُ إثـبــاتْ

فأبلغوا الأمير فأمرهم أن يردوا عليه فرسه وسلاحه ويخلوا سبيله يذهب حيث شاء ، فلما رأى أن أرض الحوض لم تعد الأرض التي كان يعرف ، أزمع هجرانها وتوجَّه إلى أخواله إدوعيش ، وذاك وجهة من قصة ما يسمونه بالملحمة الكبرى التي دارت بين اولاد أمبارك ومشظوف في آغوينيت.

وفي روايتها الشرقية جاء ما يلي:

ففي يوم من العام 1863و على مقربة من " آكوينيت " في " الحوض" انهزمت إمارة " أولاد مبارك " الا أنها انهزمت من قبل إمارة أخرى هي إمارة "مشظوف" بقيادة الأمير "أحمد محمود ولد المختار ولد أمحيميد".

وبدون أن ندخل في تفاصيل ما حدث في "آكوينيت" وتحديدا على "كدية  نغادي" بإمكاننا القول إن الكفيه عُومل معاملة جيدة من طرف  "أحمد محمود" الذي أقترح عليه  صيغة  للتعايش لم يقبل بها الكفيه مفضلا الذهاب إلى أخواله "إدوعيش" ، وربما لأنه أدرك  أن الإمارة التي قادتها أسرته منذ أكثر من نصف قرن لن تعود أبدا كما كانت وأن صفحة من تاريخها قد طويت.  

يوم "آكوينيت" كان بالإمكان أن يمر بشكل طبيعي لو أن " الكفيه " قبل طلب الأمير"أحمد محمود"الذي جاء بعد الكثير من الاقتتال العنيف أحيانا مع قبائل أخرى والمتمثل في رغبة الأمير  أخذ  مشظوف قسطا من الراحة  جنب  " أولاد أمبارك"  مع عرض يشمل 100 ناقة و8 جياد عتيقة.  

هذا المقترح  رفضه  الكفي رغم نصائح رفيقه "جدو ولد نواري  (من "أولاد بحمد "فرع أهل " تيكي ")  الذي كان حاضرا أثناء تسليم الرسالة من قبل "محمد الصغير الشريف التنواجوي.  

جدو ولد نواري أشار للأمير  الكفيه  بأسلوب خاص أن رفض هذا العرض قد يضر بسلطته مشعرا إياه أن  الإبل  تعني اللبن وأن الجياد  تعني التقدير هذا بالإضافة إلى  شريف  كحلقة وصل  .  

وبعد يومين دارت عجلة التاريخ مؤدية "بآكوينيت" والمنطقة بأكملها إلى النتيجة  التي نعرف.  

وفي هذ الشأن  لم يدرك "أولاد مبارك" أن القوة  الضاربة التي كانوا  يمتلكونها حين ما كانوا يحكمون الحوض قد  تضررت زمنا طويلا بفعل  الحروب الأهلية ،وأن الغارات المستمرةَ عليهم من بعض القبائل الأخرى وبالأخص "أولاد الناصر" قد أفقدتهم التوازن، الى درجة أن 1800 بندقية التي أداروا بها الحرب  يوم " آكوينيت" لم تستطع التصدي ل 7000 لدى  مشظوف .  

وبخصوص  سفر " الكفيi"  إلى أخواله  وضع " أحمد محمود" تحت تصرفه حماية مدعمة لمرافقته حتى " تكانت" وأثناء استعداد الأديب الشهير  للرحيل أنتج بعض نصوصه الشعرية  التي تذكر فيها بعبرة تفاصيل أوقاته الجميلة التي قضاها في الحوض.  

وفيما يتعلق بجدنا الأمير "أحمد محمود ولد المختار ولد محيميد"، أعتقد أن بإمكاننا القول إنه  كان رجلا عظيما وذا مسار استثنائي وقد عاش على رأس إمارته في " الحوض"  بمفهومه الواسع  من " أفام لخذيرات " إلى " فصال نيرة "- في قمة المجد حتى توفي يوم الجمعة 18 يوليو 1884 عند "أتيلَ" شمال "تمبدغة" عن عمر ناهز 80عاما.

أما أحفاده الذين لا يخلون من أدباء مشهورين، فقد طبعوا بدورهم فترة الاستعمار كذلك فترة الاستقلال التي تأقلموا فيها بحكمة مع دواعي المصلحة العامة، وهذه صفحة أخرى من التاريخ لها بعد آخر.

وفي تكًانت (إمارة بكار بن اسويد أحمد) تذكر بعض الروايات صداقة وتأثيراً للكفيَ على إبراهيم بن بكار بن سويد احمد الأمير الأديب المعروف بـ(ابراهيم ول ابراهيم) ولعل أهلها رأوا في إبداع ابراهيم فنَّ لِغْنَ من جهة ، وتمرده من جهة ثانية انعكاساً لإعجابه بالكفيَ ومحاكاة لأسلوبه في الحياة

 

وفي تكًانت أبدع الكفيَ عدة اطلع يتشوق فيها إلى بلاده منها :

 

لِحْتْ العينْ اعْلَ التِّيوْشَاتْ**واعْلَ بَخْواكًَ وانْـزْواتْ

 

ظلت دمعتها ما ارْكًـاتْ**لازِمْـهـا تَـعْـرَفْ لامَ

 

بيهم تِلْتَـمْ ولا اتْـلاتْ**تِلْتَـمْ إلــى القِـيَـامَ

 

وقوله حين لمع له برق من جهة الحوض :

 

يَبْرَكًْ شَيَّـرْتْ ألا بِشَّـور**ذاك امْن التِّشْيارْ ارْخِ بيـه

 

خالكً ـيَلبْركً ـذاك الشور**وانَ زادْ ألَّ عالِـم بـيـه

 

شَيَّرْتْ و شَيَّرْتْ ولا جَيْتْ**يزَّاك امن التشيار اعْيَيْـت

 

اعرفنا ذاك الِّـي وَسَيْـتْ**ذاك الي لِ شَيَّرْتْ اعْلِيـهْ

 

فرظ انواشيه إلا كًدَّيْـت**وِيلَ ما كًدَّيْـتْ انواشيـه

 

يبركًــْ شَـيَّـرْتْ ألا بشور

ثم حدثت بينه وبين بكار بن سويد أحمد جفوة أدت إلى هجرة الكفيَ إلى تيرس من أسبابها رواية ذكرها في الوسيط صاحبُه فقال في فصل الكلام على أولاد امبارك ص 487 :

(.... ومن نخوتهم أن الكفيه المشهور – وقد أدركنا من يعرف شخصه – نزل ببكار بن اسويد أحمد رئيس إدوعيش ، فبنى له بيتاً ، وكان بكار يذهب إليه بنفسه ويواكله في محله .

فأتاه ليلة مع من يحمل له شيئاً من اللحم ، فلما وضعه بين يديه امتنع من أكله !! فسأله عن السبب . فقال : إني لست سبعاً ، فإن هذا الوقت لا يأكل اللحم فيه غير السباع !!

وخرجا يوماً يتريضان على فرسين ، فمرا بمنهل غاص بالناس يسقون إبلهم فيه ، فأتوهم باللبن فشرب منه بكار أولا وناوله ، فامتنع من الشرب !! فسأله عن السبب فصرح له : بأنه لا يشرب في المنهل إلا أوباش الناس . فحقد عليه بكار ، فكان هذا سبباً في دس من يقتله بعد ذلك .... )الخ كلامه

 

وله في تيرس متشوقاً إلى الحوض (من أشهر إنتاجه على الاطلاق) :

 

خَشْمْ إيدَارْ وعِكْلْ آوْكارْ**وكًَلْبْ انكًادِ وانْـوَاوْدَارْ

 

دَارُو فِلْكًَلْبْ الي انْـدارْ**منهم رُوحـي مَمْكُـونَ

 

بين الدِّخْلْ وكًَلْبْ آدْمَارْ**وأجَمْلْ وخشم اكًْـرونَ

 

تشواش اعيالي ما امـركًْ**كًَلْبِ وِلْ دَلالي احْـرَكًْ

 

وِلِّ لَـمَّ الـلَّ يِفْتْـرَكًْ**لَخْـلاكًْ ألا مَمْـكُـونَ

 

مَخلُوكًْ افتيرس مِنْصْـرَكًْ**دارُ كانـت زَكًْـنُـونَ

 

شوفتْ بو عِشْ وبِـدْرَكًْ**تِغسِـلْ منهـم تَفُّـونَ

 

لِهْرُوبْ الَّ كًبْلْ اللحوكًْأ**مَّ روصْ المَـامُـونَ

 

نختيروهُمْ عن فُمْ زُوكًْ**قيرْ الوَطْيَ مَضْمُـونَ

 

وبالجملة فأدب الكفيَ في الحنين إلى الوطن مما يقطع القلوب رقة وتشويقاً ، حتى ليكاد سامعه تتلبسه حالُ الكفيَ عند إنشائه له .

 

كما أن شرف بيته الأميري ونخوته يظهران جليين (بما يسميه بعض أدباء العرب الماضين الملوكية في الشعر) في بعض إنتاجه كهذه الطلعة :

 

لَحْكًِتْنِ حِلَّ دَهْـرْ انْجيـهْ***مانِ فيـهْ الْ بَيْكًِـ سَمَّـاعْ

 

وعِت انْرِفْ اعْليهْ ونِبْقِيـهْ ***ونِشْريهِ إيلَ رَيْـتُ ينبـاع

 

قَـلاَّتْ اعْلِـيَّ حِـلَّ رَدْ***ما كان اعْلِـيَّ يَقْـلَ بَعْـدْ

 

لِبْتَيْتْ وياسـر مـا يِنْعَـدْ***وانَ سابكًهـا يَشَّـفَّـاعْ

 

ماكنتْ انشِكْ انُّ اتْلَ حَـدْ***اعْلَ حَدْ إيقَـلِّ شِ كًـاعْ

 

وله أيضا:

 

كًطْ اكًبَلْ مِتْكِنْتْ ومِتْكِنْتْ***وتَمَّيْتْ الاَّ بِكًسَايَ كِنـتْ

 

انسِقْتْ الْ حِلَّ وانْطِعْتْ***واكًبِلْ عَكًلِ زاد التِّطْـواعْ

 

وانَ ما كًطْ انسِقْتْ وطعْتْ***وعَكًلِ مَا كًطْ انْسَاقْ وطَاعْ

 

ويقول من لبتيت:

 

يَ الْعَگْلْ اگْدمْ نَافدْ لُبَّيْرْ == يَكَانكْ لَسْقَامْ إِهَنُّوكْ

 

أَلاَّ حَاسِيكْ أُ فِيهْ الْخَيْرْ == مَبْرُوكْ أُ عَنْدُ منْتْ ابْرُوكْ

 

مصَّابْ الْمَبْدُوعْ أُ رَدَّامْ == علْبْ النّصْ أُ زِيرتْ لغْمَامْ

 

هُومَ وانْوَاتِيلْ أَنَجَّامْ == واغْنَكَّسْ وابّيْرَاتْ الشَّوْكْ

 

مَا فِيهُمْ وَاحدْ فِيهْ اخْيَامْ == مَا عَادتْ فِيهمْ منْتْ ابْرُوكْ

 

مصَّابْ أُوكْ أُ ظَايتْ لگْنَدْ == واحْرَاگفْ لَبْيَارْ أُ لمْلَدْ

 

واعْلاَبْ الْحَاسِ والْمَحْرَدْ == يَ مصَّابْ امَّلِّ هَاذُوكْ

 

مَا فِيهمْ واحدْ عَنْدُ حَدْ == ما عَادتْ فِيهمْ منْتْ ابْرُوكْ

وتجربته في الحياة وما مرَّ به من نكبات (طوعت) إباءَه و(انساقت) لها نخوتُه ، وجعلته قادراً على القول بعد التجربة :

وهذه القطعة قبل الأخيرة أرويها للكفيَ ورأيت صاحب الوسيط ذكرها له ، ثم سمعت أنها تُدَّعَى لبعض الأدباء غير الكفيَ لا أعلم من هو ، والعلم عند الله . قتل الكَفْيَ بالقرب من مدينة شنقيطِ سنة 1277 هـ / 1860 م وأجمعت المصادر التي ذكرته أن ذلك كان بإيعاز من بكار بن اسويد أحمد . رحم الله الكفيَ وغفر له.